سلسلة الآداب الإسلامية:
الموضوع 4: بر الوالدين
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الحقيقة، وأنا أحاول تجميع الموضوع بين يدي القارئ،
لاحظت أن هذا الموضوع كان الأولى بي أن أضعه بين أيديكم في أول حلقة لما له من
أهمية قصوى يترتب عليها بناء المجتمع كله وليس بناء الأسرة فحسب.
لقد أمر الإسلام بالإحسان للوالدين، وأوصى بهما خيراً في
الكِبَرِ حيث يكثر اللغط والغلط وتنقص الذاكرة وتظهر الأمراض وتُعْدم القدرة أو
تقل، فقال الله تعالى: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا
قَوْلاً كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ
رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24)" [سورة الإسراء].
إن "أف" كلمة تَقْصد من ورائها التعبير عن
مضايقتك من طرف مخاطبك، وهي أقل ما يعبر به عن حال كهاته، ورغم ذلك منع الإسلام
الوالد من تلفظها في وجه الوالدَيْن أو أحدهما، كما أن الإسلام أمر بخفض الجناح
وهي كناية عن التذلل والاستصغار أمامهما، كيف لا وقد كان ذليلا صغيرا يدللانه
ويغيران ملابسه كالدمية بين يديهما لا حول له ولا قوة.
إن أمر الإسلام بالإحسان بالوالدين لم يأت من أجل لُحمة
النسب فحسب بل جاء أيضاً من أجل لمِّ الشمل ودوام السعادة واستمرار الحنان والعطف
بين الأجيال المتعاقبة، وما نراه من انتشار لدور العجزة في عصرنا الحاضر ليس إلا
استيراداً غربيا غريبا لا علاقة لديننا ولا لأعرافنا به، بل يجب أن تدور عجلة
الحياة في نفس المحيط وبنفس الشكل وبنفس النَّفَسِ الذي كان الوالدان يتابعان به
رعرعة فلذات الأكباد.
ولكم هذه الأحاديث النبوية التي عسى أن تزيدنا قوة عزم في
إرضاء الوالدين أو أن تبعث الأمل في قلوب العاقين لتغيير سلوكهم نحو الأفضل:
لقد جعل الإسلام بر الوالدين من أفضل الأعمال بل أفضلها على
الإطلاق بعد الصلاة، فعن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ
هَذِهِ الدَّارِ؛ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى
اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:
ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ
لَزَادَنِي. [رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام البخاري في الأدب المفرد].
وفي المقابل، جعل العقوق من أكبر الكبائر بل أكبرها على
الإطلاع بعد الشرك بالله تعالى، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا
أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِر؟ِ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ
فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا
لَيْتَهُ سَكَتَ. [رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد].
ويكفي الإسلام فخرا في الاهتمام بالوالدين أن أسقط الجهاد
على من يعولهما أو يعول أحدهما رغم أن الجهاد كما جاء في الحديث الصحيح "ذروة
سنام الإسلام" فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ
فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا
فَجَاهِدْ". [رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد].
بل إن الإحسان للوالدين سبب رئيسي في نيل نعيم الخلود، فعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ (1). قِيلَ: مَنْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ
أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ". [رواه البخاري
في الأدب المفرد ومسلم في صحيحه].
وقد أعطى الإسلام للأم حقها في الرعاية وخفض الجناح ثلاث
أضعاف ما أعطى للأب، فبقدر المتاعب تُنال المكاسب، فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
قلت: يا رسول الله، من أبر (2)؟ قال: أمك. قلت: من أبر؟ قال: أمك. قلت: من أبر؟
قال: أمك، قلت: من أبر؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب" [رواه البخاري في
الأدب المفرد].
إخواني الأعزاء! إياكم والعقوق! وعليكم بالبر، فلن ينال رضا
الله تعالى من أسخط والديه، وعليكم بطاعتهما في كل معروف ما لم يكن إثما ولو كانا
غير مسلمين، قال الله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"
[سورة العنكبوت، الآية 8].
فمن العقوق قول أف لهما بله (3) دفعهما أو ضربهما، ومن
العقوق عزلهما عن المحيط في دور تسمى "دور العجزة"، وانظر إلى هذه
الآداب النبيلة من تراثنا الغالي، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة
أنه أبصر رجلين ، فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: لا تسمه باسمه، ولا
تمش أمامه، ولا تجلس قبله"اه.
بل إن البر بالوالدين يتعدى الإحسان إليهما في حياتهما إلى
الإحسان إليهما بعد مماتهما، فعن أسيد بن علي بن عبيد، عن أبيه، أنه سمع أبا أسيد
يحدث القوم قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله، هل بقي
من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما؟ قال: نعم، خصال أربع: الدعاء لهما، والاستغفار
لهما، وإنفاذ (4) عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من
قبلهما". [رواه البخاري في الأدب المفرد].
وإلى موعد آخر ومع موضوع آخر طبتم ودمتم في رعاية الله.
الشروح:
(1) رغم
أنفه: لصق بالرغام وهو التراب، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد
على كره.
(2)
من البر أي حسن الصحبة والمعاشرة.
(3)
بله: اسم فعل أمر بمعنى دع عنك.
(4)
إنفاذ العهد: إتمامه وإمضاؤه والوفاء به.
بقلم: قروشي لحسن بن عدي
Mes adresses Email, mes pages & mon blog « Lahcenb
Karouchi » :
Mon site « Blog » :
Ma chaine « YouTube » :
Ma page
« FaceBook » :
Ma page « Twitter » :
Mon adrese Email « Gmail » :
Mon adrese Email « Hotmail » :
0 التعليقات:
إرسال تعليق