لسْتُ ثائرا ولا فوضويا
إنما أنا صاحب كلمة.
أردت في البداية أن
أملك مسدسا أو سيفا لأقول على غرار الحجاج بن يوسف الثقفي: "إني أرى رؤوسا قد
أينعت، وقد آن قطافها".
نعم، هناك رؤوس تملكت
المال والجاه بل ورقاب العباد، ولم يَكُن يوما أصحابها من المرموقين ولا المُمَلَّكِين!!
وهناك رؤوس تربعت زمانا
على عرش البدخ والعربدة، فصاحب ذلك منها بطشا وسلبا ونهبا.
وهناك رؤوس تقلدت
القضاء ولم تكن تملك يوما مصروف النقل العمومي بله الخاص، لتُتاجر في الملفات
والقضايا.
وهناك رؤوس تدنَّتْ
أمام الأكابر في وساطة مشبوهة نطلق عليها السمسرة، فلم تترك مجالا إلا ولوثته ولا
ميدانا إلا وعكرته.
وهناك رؤوس سيطرت عليها
سلوكيات قبيحة من قبيل الرشوة والزبونية في قضاء مصالح العباد أو التوسط لهم للتربع
عل كرسي الوظيفة!!
لقد عمَّ الفساد كل
جوانب حياتنا! فالرشوة، والظلم، والجور، والغش، والمحسوبية، والتكبر، وتهرب أكابر
القوم الضريبي، وأكل مال اليتيم، وحرمان الأنثى من نصيبها في الإرث، وانتشار الزنا
والربا والخمر، بل ظهور من يُحل الخمر من أصحاب العمائم لا العوام، وانتشار الكذب
بكل أنواعه ومن كل الأطياف، حيث كان يمتهن الكذب ساسة القوم فأصبح حتى عامة الناس
يلجؤون إليه في كتاباتهم على الفايس أو غيره.... الخ
كل هذا وذاك يدعوني للانتقام
من تلك الرؤوس.
ألم تُحدثْك نفسُك يوما،
وأنت ذلك المواطن الصالح، أن تدفن كل هؤلاء أحياءً؟؟؟!!!
ألم يخْطُرْ بِبالِكَ
أن تتملك قوة خارقة لإبادة الطغاة نُصرة للمظلومين؟؟؟!!!
ألم تحلم في يقظتك قبل
نومك يوما أن يتم بناء المدينة الفاضلة سريعا للتخلص من تلك النفايات البشرية؟؟؟!!!
وأنا أتأمل رغبة
الإنسان في الإصلاح، وجدت لهذه الرغبة طريقان:
الأول: طريق عنيف يعتمد على سيلان الدماء بقطف الرؤوس.
والثاني: طريق رفيق يعتمد على قوة الكلمة بالنصح والإرشاد والتوجيه.
فالطريق الأول طريق
دموي لا يؤدي للنتائج المحمودة، لأن العنف يواجه بالعنف، مما يُضاعف الخسائر وينشر
الفوضى ويُفقد الأمن والأمان، بل قد يُظْهِرُ أصحاب الطغيان بمظهر المظلوم، حيث
يصدق فيهم قول المثل المغربي (ضَرْبُو أُوبْكَى أُوسَبْقُو أُوشْكَى)، وهذا قد
يُكسبهم تعاطفا شعبيا.
والطريق الثاني طريق
الأنبياء والصالحين، ومنهج رب العالمين، فلم يحمل الأنبياء سلاحهم إلا ردا لطغيان
أو دَرْءاً لِظُلم بل نصحوا وأرشدوأ (بَشِّرُوا ولا تُنفروا، ويسِّروا ولا
تُعسروا). وقد حقق هذا الطريق نجاحا باهرا حيث أنشأ أجيالا وأصلح شعوبا وقاد دولا
بل وبنى أمما.
قال تعالى في سورة
المائدة الآية 32: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا).
إن قتل النفس محرم نقلا
وعقلا، بل قد جعله الله محرما في الناس وبينهم جميعا، وليست حرمته فقط بين قوم قد اتحدوا دينا أو لغة.
إذن عوض أن تقتل ذلك
الطاغية قم بنصحه وتوجيهه لجادة الصواب فلعل الله يهديه ويُصلحه بل يُصلح أقواما
على يديه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النَّاسُ مَعَادِنُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،
خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقِهُوا)
رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلاَنِ
الجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَى القَاتِلِ، فَيُسْتَشْهَدُ).
ولمعرفة الله بكنه
البشرية فقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِم)ْ سورة الرعد الآية 11.
فعندما تُؤَدِّي الكلمة
دورها بحيث تشربها النفس وتتمثلها سلوكا ومنهجا هنا يبدأ التغيير.
قد يستغرق هذا التغيير
أعواما كما هو الشأن في بناء جيل الصحابة حيث دامت الدعوة المكية ثلاثة عشر عاما
وهي تبني الإنسان عقيدة ومنهجا، ثم عشر سنوات بالمدينة وهي تبنيه علاوة على ذلك
تنظيما وسلوكا.
وقد يكون هذا التغيير
وليد اللحظة نفسها كما حدث مع سحرة فرعون، حيث أسلموا بمجرد توصلهم للحق في برهة
زمانية صغيرة جدا، ورغم ذلك كانت مواجهتم لطاغية كفرعون مواجهة صلبة وقوية، إنها قوة
الإيمان الذي حملوه، أن تُؤمن في نفس الوقت الذي تُهدد فيه بالموت شيء فوق العادة
ولكنه البناء الديني، قال تعالى في سورة طه: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا
آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا
وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)).
من هنا آمَنْتُ بالكلمة
وبقوتها في التغيير، فبدلا من المسدس أو السيف ألجأ إلى الكلمة، وبدلا من العنف ألجأ
إلى الرفق، وبدلا من التشدد ألجأ إلى التيسير، وهكذا أبني وإياك أخي المثقف أنفسنا،
وهكذا نبني الإنسان، والله الموفق لأهدى السبل.
بقلم: قروشي لحسن بن
عدي