بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب سجود السهو
جمع وإعداد: الأستاذ لحسن قروشي
تَمْهِيدٌ
الحمْدُ لِلّه علَى إنْعامه اللاّمتناهِي حمداً يليقُ بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على أشرف الخلق محمّد الذي شرع أحسن الشرائع وعلى آله وكل من صحبه وتبعه من الخلف أو السلف إلى يوم الدين. وبعد فهذا كتاب أسميته "كتاب سجود السهو" أعددته وجمعته من أقوال أئمتنا وعلمائنا في الفقه والحديث، ولا أدعي تأليفه إذ لم يترك لي غيري الاجتهاد لسببين اثنين أولهما أنني طالب علم ولا أدعي لنفسي الاجتهاد والثاني لطبيعة الموضوع الذي يوجب التقيد بالنص إن وجد. ومع ذلك فقد وجدت لعلمائنا فيه آراء مختلفة منبعها إما احتمال النسخ وإما اختلاف التأويل كما سيلاحظ القارئ. وقد أذكر فيه رأيا أو آراء مذهبية في مسائل خلافية ثم أحاول الكشف عن أقوى دليل المذهبين من النقل. وقد كان السبب في عزمي على تصنيف هذا الكتاب أنني كنت أبحث عن المسألة فلا أجدها إلا في أمهات الكتب، وأما أن يستقل بها كتيب معين يسهل اقتناؤه وقراءته فهذا مطلبي. كما أنني لاحظت أن كثيرا من المسلمين غلب عليهم الكسل ورأوا أن البحث متعب فاقتنعوا بما سمعوه من غيرهم المصلين دون إطلاع أو تقص. ولكم هذه الواقعة: صلى أحد أصدقائي ذات يوم في مسجد فسها الإمام وقام إلى ركعة خامسة فسبح به القوم فلما أبى الرجوع قام أكثرهم معه وجلس قلة، فلما انتهت الصلاة قال صديقي مخاطبا جموع المصلين: "من قام مع الإمام ساهيا فيكفيه سجود السهو ولكن من تعمد فعليه الإعادة". فرفض بعضهم هذا، ولتزكية رأيه وتهدئة الوضع قال: "لقد سمعت هذا من الشيخ أبي معاذ محمد زحل". وبما أن في القوم من يجهل العالم اسما فقد جهله قدراً. إن مصيبتنا أننا لا نقرأ وإن كنا من أمة "اقرأ"، ولا نجالس العلماء وإن كان طلب العلم فريضة. وقد حاولت أن يجد الباحث في هذا الكتاب، بإذن الله تعالى، ضالته والله الموفق لأرشد الطرق وأقوم المعارف وأهدى السبل.
الصلاة! الصلاة!
إن إيمان الخلق بالله تعالى والإخلاص له بالتوحيد من أَجَلِّ نعمه سبحانه على خلقه، ثم تأتي نعمة ما افترض عليهم من الصلاة خضوعا لجلاله وخشوعا لعظمته وتواضعا لكبريائه. ولم يفترض الله عز وجل علينا بعد توحيده والتصديق برسله وما جاء من عنده فريضة أول من الصلاة وأخبر أن ذلك أمره لهم وللأنبياء والأمم قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم. فقال عز وجل: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ(1)رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً(2)فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ(3)وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَةُ(4)وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)". [سورة البينة]. فأول فريضة جاء ذكرها في الآية بعد الإخلاص بالعبادة لله تعالى هي "الصلاة". وقال عز وجل: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [سورة التوبة]. والمعنى: أي إن تابوا من شركهم وأخلصوا لله، ثم ذكر بعد الإخلاص "الصلاة". ونظير هذا كثير في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نذكر منها: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ. [رواه الإمام البخاري]. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ خَلِيًّا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ بَخٍ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَهُوَ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى رَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ أَمَّا رَأْسُ الْأَمْرِ فَالْإِسْلَامُ فَمَنْ أَسْلَمَ سَلِمَ وَأَمَّا عَمُودُهُ فَالصَّلَاةُ وَأَمَّا ذُرْوَةُ سَنَامِهِ فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفِّرُ الْخَطَايَا وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْلَكِ ذَلِكَ لَكَ كُلِّهِ قَالَ فَأَقْبَلَ نَفَرٌ قَالَ فَخَشِيتُ أَنْ يَشْغَلُوا عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شُعْبَةُ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلُكَ أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْلَكِ ذَلِكَ لَكَ كُلِّهِ قَالَ فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يامُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ قَالَ شُعْبَةُ قَالَ لِي الْحَكَمُ وَحَدَّثَنِي بِهِ مَيْمُونُ بْنُ أَبِي شَبِيبٍ وقَالَ الْحَكَمُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. [رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد واللفظ له]. عَنْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ :جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ. [رواه الإمام البخاري]. عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ وَقَالَ احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ. [رواه الإمام البخاري]. فإذا تأملت هذه الأحاديث، لاحظت أن ذكر "الصلاة".جاء بعد ذكر الإخلاص وتوحيد الله تعالى. وقد أمرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإقتداء به فقال: "صلُّوا كما رأيْتُموني أصلِّي" رواه البخاري. وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِني صَنَعْتُ هَذَا لِتَأتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتي. والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة. وبما أن هذا الكتاب عن سجود السهو وليس عن الصلاة، فإنني أهيب بقرائه أن يقرؤوا بعض الكتب في صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخص بالذكر كتاب "صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للشيخ الألباني، وكتاب "الخشوع في الصلاة" للدكتور الشيخ عز الدين توفيق، وهناك كُتَيِّبٌ قيم أفادني عندما كنت طفلا لم أبلغ الحلم عنوانه "الصراط المستقيم في صفة صلاة النبي الكريم" للدكتور تقي الدين الهلالي رحمة الله عليه، وقد فُقِدَ من السوق لمدة، ومن هنا أهيب بمن يقوم برعاية الإرث الثقافي لهذا العالم الجليل أن يعمل على نشره مرة أخرى مأجوراً إن شاء الله تعالى.
السهو في الصلاة:
بما أن للصلاة في الإسلام أهمية كبرى، فإن إقامتها دون شروط لا تكفي، وذلك حتى تؤدي دورها في حياة المسلم، ومن ثم جاء عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: " لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ" رواه الإمام أحمد وقال: "وَمَعْنَى غِرَارٍ يَقُولُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْكَمَالِ". وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قالَ رَسُول اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ...وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ". رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، وسنأتي على ذكر الحديث بطوله إن شاء الله تعالى. واعلم أخي المسلم أن السهو في الصلاة لا يبطلها ولكنه ينقص من أجرها وثوابها، فعن عبد الرحمن بن الحارث أنه قال لعمار في الصلاة فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل ليصلي وما له إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها حتى انتهى العدد.[رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام البخاري في التاريخ واللفظ له]. أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص بحسب الخشوع والتدبر ونحو ذلك مما يقتضي الكمال. وفي بعض الروايات "إن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل" أي فيكتب له منها ما عقل فقط. إذ كيف يثيبه الله تعالى على صلاته وهو لا يدري أنه بين يديه، فعليه لإدراك الثواب أن لا يلتفت إلى غير الله بقلبه وبصره وهو ينتقل بين الركوع والسجود وسائر الأركان. ونعلم مما سبق أن مقصود الخبر الزجر عن كل ما ينقص الثواب أو يبطله و أنه لا يثاب إلا على ما عمل بقلبه، وأما الفرض فيسقط والذمة تبرأ بعمل الجوارح، وهذا فضل كبير ومنة من الله تعالى على العباد. ومصداق هذا حديث حُرَيْث بْنِ قَبِيصَة أو قَبِيصَة بْنُ حُرَيْث قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا قَالَ فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي جَلِيسًا صَالِحًا فَحَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ. [ رواه النسائي وأحمد والترمذي واللفظ له]. ويقصد بِ "مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ" الخشوع وأما الأركان فجبرها إتمامها كما في حديث ذي اليدين، وأما العجلة في الصلاة وعدم الاطمئنان أثناء أداء أركانها فإنه يبطلها ولا يجبر ذلك إلا بإعادة الصلاة كما في حديث المسئ صلاته، وللمزيد من التفصيل في هذه المسألة أنصح بالرجوع إلى كتاب "الخشوع في الصلاة" للدكتور الشيخ عزالدين توفيق فقد أسهب وأجاد عند حديثه عن خشوع الظاهر وخشوع الباطن، وكيف لا يجيد وهو العالم الفذ والمؤدب المقتدر والبحر الزاخر. ومما يدل على عدم مؤاخذة المصلي الذي يفكر في غير الصلاة أثناء الصلاة حديث أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ فَلَا يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [رواه البخاري ومسلم. واللفظ للبخاري وقد بوب له بقوله: "بَاب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ". فقوله: "حتى لا يدري كم صلى" فإنه يدل على أن التفكر لا يقدح في صحة الصلاة ما لم يترك شيئا من أركانها، وإن كان ينقص من ثوابها. وأما قول عمر فقد ذكره معلقا، وقد أورده بعض المحدثين في كتبهم مسندا منهم البيهقي في سننه وعبد الرزاق في مصنفه واللفظ له، عن معمر عن قتادة قال صلى عمر بالناس صلاة العشاء فلم أسمع قراءته فيها فقال له أبو موسى الأشعري ما لك لم تقرأ يا أمير المؤمنين؟ قال: أكذلك يا عبد الرحمن بن عوف؟ قال: نعم. قال: أو فعلت. قالوا: نعم. قال: صدقتم. قال: إني جهزت عيرا من المدينة حتى وردت الشام فكنت أرحلها مرحلة مرحلة قال فأعاد لهم الصلاة قال فأخبرني أبان عن جابر بن يزيد أن عمر بن الخطاب أمر المؤذن فأقام ثم صلى. وقد جاء في الموطأ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ. وَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ.مُوَطَّأ مَالِك. ذكر ابن عبد البر في التمهيد تعليقا على هذا الحديث: [... أما هذا الحديث بهذا اللفظ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندا ولا مقطوعا والله أعلم. وهو أحد الأحاديث الأربعة في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة والله أعلم. ومعناه صحيح في الأصول وقد مضت آثار في باب نومه عن الصلاة تدل على هذا المعنى نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم" وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"... وقد بَلّغَ ما أمر به ولم يتوفاه الله حتى أكمل دينه سننا وفرائض والحمد لله]. واعلم أخي المسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع منه السهو والنسيان، وهذا لايطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم بل يؤكد على بشريته. ذكر الإمام العسقلاني في فتح الباري "...وأن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما طريقه التشريع..." وقد وقع للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السهو في الصلاة، وكان سهوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذه هي الحالات التي ثبتت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السهو: 1) سلم من اثنتين في صلاة رباعية. 2) سلم من ثلاث في صلاة رباعية. 3) قام من اثنتين في صلاة رباعية ولم يتشهد. 4) الزيادة في عدد الركعات حيث صلى خمس ركعات عوض أربع. 5) السجود على الشك، وهو ليس حالة بل إخبار وتعليم منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته. وسنأتي إن شاء الله تعالى على ذكر الأحاديث التي أخبرتنا بهذه الحالات.
سجود السهو:
سجود السهو هو سجدتان قبل التسليم أو بعده، بتكبير وتسليم، ويشرع لترك مسنون أو لزيادة ركن أو ركعة سهوا أو للشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم، والإمام والمنفرد وكذا الفريضة والنافلة فيه سواء، وهذا كله سنعرض له إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في مواضع سجود السهو على أقوال عدة، ستلاحظها بنفسك أخي القارئ بعد بسط المسائل أمامك، وفي نهاية الكتاب سنجملها لك لتعميم الفائدة. والسبب في اختلافهم هو كون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وبعد السلام أو أمر بهما معا. وقد ذكر الشوكاني عن القاضي عياض وجماعة من أصحاب الشافعي أنهم قالوا بعدم وجود خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده للزيادة أو للنقص أنه يجزئه ولا تفسد صلاته وإنما اختلافهم في الأفضل. وقد يقول قائل: فلم إذن تتعب نفسك في بسط هذا الموضوع؟ فأقول: هناك مسائل تغيب عن المصلي يتركها أو يضيفها في صلاته، ولو اكتفى بالسجود لها لبطلت صلاته. فأمر الصلاة عند المسلم ذو أهمية قصوى، ولذا وجب العلم بهذه القضية كما أن المسلم لا يستغني عن الأجر، ولاشك أن الأفضل من الأعمال أكثر أجرا من المفضول. وقد رأيت أن أسرد أحاديث حالات السهو التي حملت العلماء على اختلافهم هذا وأشرحها وأبسط فوائدها، ولم أراعي في سردها الترتيب الزمني للواقعة، وهي تجسيد لما احتج به العلماء كل حسب تأويله وفهمه للنص:
الحديث الأول حديث ذي اليدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو عن الحالة الأولى حيث سلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اثنتين في صلاة رباعية: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرْعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ قَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالَ أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ. [رواه الشيخان واللفظ للبخاري]. فهذا الحديث يشير إلى نقصان في عدد الركعات، ومثل هذا لايجبر بالسجود وحده بل لابد من إتمام عدد الركعات أولا ثم بعد أن يسلم، من وقع في مثل هذا السهو، يسجد سجدتين كسجود الصلاة ثم يسلم بعدهما مباشرة دون تشهد. وقد اشتمل هذا الحديث على هذا المعنى وعلى فوائد جمة أحببت الإشارة إليها حتى تعم الفائدة:
1) فيه جواز تشبيك الأصابع في المسجد، ومن باب أولى في غيره، ومن فقه البخاري أن هذه الرواية بوب لها بقوله "بَاب تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ".
2) فيه جواز خروج المصلين مباشرة بعد انتهاء الصلاة، وليس في الأمر حرج، حيث أن البعض يشدد في هذا وكأن فاعله ارتكب جرما، فقوله "وخرجت السُّرْعَانُ" بضم ثم إسكان كأنه جمع [سَرِيعٍ] ك [كَثِيبٍ] و[كُثْبَانٍ] والمراد بهم أوائل الناس خروجا من المسجد وهم أصحاب الحاجات غالبا.
3) فيه أن النسيان لا يعصم منه أحد نبيا كان، ومن باب أولى غيره، قال صلى الله عليه وسلم: "نسي آدم فنسيت ذريته" رواه الترمذي. 4) فيه أن اليقين لا يجب تركه للشك حتى يأتي يقين يزيله ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تمامها، وأمكن في ذلك القصر من جهة الوحي، وأمكن الوهم لزمه الاستفهام ليصير إلى يقين يقطع به الشك.
5) فيه أن الواحد إذا ادعى شيئا وهو في مجلس جماعة لا يمكن في مثل ما ادعاه أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس، لم يقطع بقوله حتى تستخبر الجماعة فإن خالفوه سقط قوله أو نظر فيه بما يجب وإن تابعوه ثبت.
6) فيه إذا انفرد الثقة بزيادة خبر وكان المجلس متحدا أو منعت العادة غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره.
7) فيه دليل على أن المحدث إذا خالفته جماعة في نقله أن القول قول الجماعة، وإنَّ القَلْبَ إلى روايتهم أشد سكونا منه إلى رواية الواحد.
8) فيه أن الشك قد يعود يقينا بخبر أهل الصدق وأن خبر الصادق يوجب اليقين، والواجب إذا اختلف أهل مجلس في الشهادة وتكافؤوا في العدالة أن تؤخذ شهادة من أثبت علما دون من نفاه.
9) فيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته.
10) فيه أن من سلم ساهيا في صلاته وأتمها بعد سلامه ذلك وسجد لسهوه، لم يؤمر باستئناف صلاته بل يبني على ما عمل فيها ويتمها، وسوف أخصص إن شاء الله تعالى فصلا للحديث عن البناء لأهميته.
11) فيه أن السجود بعد السلام لمن عرض له مثل هذا في صلاته أو لمن زاد فيها ساهيا قياسا عليه.
12) فيه عدم التشهد بعد سجدتي السهو.
13) وفيه أن سجدتي السهو يكبر فيهما وأنهما على هيئة سجود الصلاة.
14) وفيه أن سجدتي السهو يسلم منهما.
15) فيه أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام, وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة.
16) فيه أيضا دليل على أن الكلام في الصلاة إذا كان فيما يصلحها وفيما هو منها لا يفسدها عمدا كان أو سهوا إذا كان فيما يصلحها، وقد اختلف في هذا المعنى جماعة الفقهاء ولأهميته سأخصص له فصلا مستقلا إن شاء الله.
17) فيه احترام التلميذ لمعلمه ولو عند نسيانه، تأمل كيف أن الشيخين أبا بكر وعمر هابا أن يكلما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذا كبار الصحابة في حين أن المستفسر هو رجل غير مشهور، قيل أنه كان يحضر الصلاة بين الفينة والأخرى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه يسكن البادية، وتأمل كيف تأدب هذا السائل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:"يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ وأما قوله في آخر الحديث: ( فربما سألوه : ثم سلم؟ ) أي ربما سألوا ابن سيرين هل في الحديث " ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران إلخ ". وهذا يدل على أنه لم يسمع ذلك من عمران. وقد بين أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران فقال " قال ابن سيرين حدثني خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي...]
ولتمام الفائدة أسرد الواسطة من سنن أبي داود أولا ثم من سنن الترمذي ثانيا، [ولكن أشير إلى أن رواية مسلم أصح كما سيأتي ذكره في الحالة الثانية بعده]: فمن سنن أبي داود: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي أَشْعَثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ خَالِدٍ يَعْنِي الْحَذَّاءَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ. و من سنن الترمذي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وقد جاء في شرح الترمذي: "فيه دليل لمن قال بالتشهد بعد سجدتي السهو وهم الحنفية وغيرهم. قوله: ( هذا حديث حسن غريب ) أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وسكت عنه أبو داود وذكر المنذري تحسين الترمذي وأقره. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وقول الترمذي حسن غريب ما لفظه: وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد: وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضا في هذه القصة : قلت لابن سيرين فالتشهد ؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئا, وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم فصارت زيادة أشعث شاذة: ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت, لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف...". وذكر ابن قدامة في المغني: "ويحتمل أن لا يجب التشهد لأن ظاهر الحديثين الأولين أنه سلم من غير تشهد وهما أصح من هذه الرواية [يقصد رواية الترمذي] ولأنه سجود مفرد فلم يجب له تشهد كسجود التلاوة". وقد ذهب بعض العلماء إلى أن آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو السجود قبل السلام، لأنه تمام الصلاة وجبر لنقصها، فكان قبل سلامها كسائر أفعالها، وهو مذهب الشافعي وقول الزهري. والسبب في ذلك أن الزهري رغم طول باعه في العلوم الشرعية فقد كبا، ولكل جواد كبوة. روى الإمام النسائي في سننه عَنْ ابْنِ شِهَابٍ [أي الزهري] قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فِي سَجْدَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا نَعَمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ. واعتمادا على هذه الرواية قال بعض العلماء: أحاديث أبي هريرة من مراسيل الصحابة فإنه لم يحضر قصة ذي اليدين لأن ذا اليدين قتل ببدر وكان إسلام أبي هريرة بعده عام خيبر سنة سبع من الهجرة. وسبب هذا التأويل أن الزهري جعل من ذي اليدين وذي الشمالين شخصا واحدا. وأجاب علماء آخرون -والقول قولهم- بأن الادعاء أن أبا هريرة لم يحضر قصة ذي اليدين باطل قطعا، فإنه قد ثبت حضوره قصة ذي اليدين بأحاديث صحيحة صريحة، فرواية البخاري بلفظ [صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ] وكذلك رواية مسلم [صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، وله أيضا. [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]. كما أن للإمام أحمد أيضا [عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظُّهْرِ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وللإمام الجليل ابن عبد البر رد جميل ننقله بتصرف، حيث يقول: قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر غير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ولسنا ندافعهم أن ذا الشمالين مقتول ببدر لأن إبن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل يوم بدر... وأما قول الزهري في هذا الحديث أنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر، وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب على أهل العلم بالنقل ترك روايته... لا أعلم أحدا من أهل العلم والحديث المنصفين فيه عول على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين لاضطرابه فيه وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه أحد والكمال ليس لمخلوق وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.انتهى.
الحديث الثاني:
حديث عمران بن حصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو عن الحالة الثانية حيث سلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثلاث في صلاة رباعية: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ فَقَالَ أَصَدَقَ هَذَا قَالُوا نَعَمْ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. فهذا الحديث يشبه الحديث الأول، إذ يشير إلى نقصان في عدد الركعات، حتى ذهب بعض العلماء إلى أن قصته هاته هي نفسها قصة حديث ذي اليدين، والأمر مختلف كما سترى. وحكم هذه الحالة كسابقتها حيث قد نص الحديث على ذلك، وأضيف هنا، لتعميم الفائدة القاعدة الفقهية التي تقول: "إذا اشتبه أمران في العلة اتحدا في الحكم". ولا بأس من تكرار ما سبق ذكره من أن مثل هذا لا يجبر بالسجود وحده بل لابد من إتمام عدد الركعات أولا ثم بعد أن يسلم، من وقع في مثل هذا السهو، يسجد سجدتين كسجود الصلاة ثم يسلم بعدهما مباشرة دون تشهد. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين من رواية مسلم هاته "فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول" وهو مذهب من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران, وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد وهو الراجع للأسباب التالية:
1) في حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين وفي حديث عمران هذا أنه سلم من ثلاث ركعات.
2) في حديث أبي هريرة أنه قام إلى خشبة في المسجد وفي حديث عمران هذا أنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة.
3) في حديث أبي هريرة أن المستفسر هو ذو اليدين وبحضرة الشيخين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي حديث عمران هذا أن المستفسر هو الخرباق وليس هناك ما يدل على أنه ذو اليدين، وحتى إن كان الخرباق يحمل اسم ذي اليدين، فهذا لايمنع التعدد، حيث يمكن لأكثر من شخص أن يحملوا نفس اللقب أو الاسم في عصر واحد ومكان واحد.
4) في حديث أبي هريرة جاء التصريح مرة بأنها الظهر ومرة بأنها العصر، وفي حديث عمران هذا جزم الرواة بأنها صلاة العصر.
5) في حديث أبي هريرة كما جاء عند البخاري "فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ"، وفي حديث عمران هذا "فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ".
وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن : "...أهل العلم اختلفوا هل حديث عمران وحديث أبي هريرة حكاية لقصة واحدة أو لقصتين مختلفتين والظاهر ما قاله ابن خزيمة ومن تبعه من التعدد لأن دعوى الاتحاد تحتاج إلى تأويلات متعسفة...". بتصرف. وقد سبق وقلت بأن رواية مسلم هاته أصح من روايتي أبي داود والترمذي، ذلك أن المحفوظ في حديث عمران أنه ليس فيه ذكر التشهد، وإنما تفرد به أشعث عن ابن سيرين وقد خالف فيه غيره من الحفاظ عن ابن سيرين وقد أخرج النسائي الحديث نفسه من طريق آخر بدون ذكر التشهد. أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ الْعَصْرِ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ فَقَالَ يَعْنِي نَقَصَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَصَدَقَ قَالُوا نَعَمْ فَقَامَ فَصَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْهَا ثُمَّ سَلَّمَ. رواه النسائي. كما أن لأبي داود أيضا رواية دون ذكر التشهد: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ دَخَلَ قَالَ عَنْ مَسْلَمَةَ الْحُجَرَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ كَانَ طَوِيلَ الْيَدَيْنِ فَقَالَ لَهُ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَصَدَقَ قَالُوا نَعَمْ فَصَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْهَا ثُمَّ سَلَّمَ. رواه أبو داود. وعليه فإن السلام من السجدتين بعد السلام فثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التشهد فلا يحفظ من وجه ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث:
حديث ابن بحينة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو عن الحالة الثالثة حيث قام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اثنتين في صلاة رباعية ولم يتشهد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ [رواه البخاري].
فهذا الحديث يشير إلى ترك التشهد الأول سهوا، وبما أنه سنة وليس فرضا فقد جاء جبره بالسجود، وبما أنه نقصان فقد كان السجود له قبل السلام. فحكم هذه الحالة -كما نص الحديث على ذلك- وكذا مثيلاتها أن تجبر بالسجود بعد التشهد الأخير وقبل السلام. ولكون ابن بحينة غير معروف لدى الكثيرين أحببت التعريف به: هو عبد الله بن مالك ابن بحينة الأزدى أبو محمد حليف لبنى المطلب، وأبوه مالك بن القشب الأزدى من أزد شنوءة، وبحينة أمه وهى بنت الحارث ابن المطلب بن عبد مناف بن قصى وقيل بل أمه أزدية من أزد شنوءة وهو أزدى أيضا حليف لبنى المطلب بن عبد مناف، وهو بموضع يدعى بطن رئم مسيرة يوم من المدينة، روى عنه الأعرج وحفص بن عاصم وابنه علي بن عبد الله ابن بحينة. وقد ذهب البغدادي إلى أنه ابن القشب المذكور في هذا الحديث قَالَ عَبْد اللَّهِ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَابْنُ الْقِشْبِ يُصَلِّي فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْكِبَهُ وَقَالَ يَا ابْنَ الْقِشْبِ تُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا أَوْ مَرَّتَيْنِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَشُكُّ. رواه أحمد. وقد توفى ابن بحينة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فى آخر خلافة معاوية. فقوله: ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم ) فيه : - حجة للجمهور على أبي حنيفة - رضي الله عنه - فإن عنده السجود كله، للنقص والزيادة، بعد السلام.
ومن فقه الحديث وفوائده:
1) أن سجود السهو قبل السلام في النقص كما يقول الإمام مالك.
2) أنه يشرع التكبير لسجود السهو.
3) أن المصلي إذا قام من اثنتين واعتدل قائما لم يكن له أن يرجع وأما المتذكر عند القيام قبل اعتداله فعليه الرجوع إلى الأرض للتشهد. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس بعد قيامه فكذلك ينبغي لكل من قام من اثنتين أن لا يرجع. فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته، هذا ما عليه جمهور العلماء وإن اختلفوا في سجود سهوه وحال رجوعه. وأما من قال تفسد صلاته فهو قول ضعيف لا وجه له لأن الأصل ما فعله وترك الرجوع رخصة.
4) أن التشهد الأول والجلوس له ليسا بركنين في الصلاة ولا واجبين إذ لو كانا واجبين لما جبرهما السجود كالركوع والسجود وغيرهما، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي رحمهم الله تعالى, وقال أحمد في طائفة قليلة: هما واجبان، وإذا سها جبرهما السجود على مقتضى الحديث، فكأن هذا من خصائص التشهد الأول.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فقال مالك من قام من اثنتين تمادى ولم يجلس وسجد لسهوه قبل السلام على حديث ابن بحينة هذا فإن عاد إلى الجلوس بعد قيامه هذا فصلاته تامة وتجزيه سجدتا السهو. وقال الشافعي إذا ذكر ولم يستتم قائما جلس فإن استتم قائما لم يرجع وهو قول علقمة والأسود وقتادة والضحاك بن مزاحم والأوزاعي. وفي قول الشافعي إذا رجع إلى الجلوس سجد سجدتي السهو وفي قول الأسود وعلقمة لا يسجد للسهو بأن رجع. وقال حماد بن أبي سليمان إذا ذكر ساعة يقوم جلس. وقد روي عن مالك أن المصلي إذا فارقت الأرض أليته وهم بالقيام مضى كما هو ولا يرجع وقال حسان بن عطية إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى.
قال أبو عمر"صاحب التمهيد": قد روي في هذا الباب حديث وإن كان في إسناده من لا تقوم به حجة وهو جابر الجعفي فإنه أولى ما قيل به في هذا الباب وعليه أكثر أهل الفتوى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ يَعْنِي الْجُعْفِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُبَيْلٍ الْأَحْمَسِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ الْإِمَامُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ اسْتَوَى قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَلَيْسَ فِي كِتَابِي عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ. قال أبو عمر: في هذا الحديث وفي حديث ابن بحينة وغيره من ترك الرجوع لمن قام من اثنتين دليل على صحة ما ذهب إليه أصحابنا ومن قال بقولهم الوسطى سنة ليست بفريضة لأنها لو كانت من فروض الصلاة لرجع الساهي إليها متى ذكرها فقضاها ثم سجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وكان حكمها حكم الركوع والسجود والقيام ولروعي فيها ما يراعى في السجود والركوع من الولاء والرتبة ولم يكن بد من الإتيان بها فلما لم يكن ذلك حكمها وكانت سجدتا السهو تنوب عنها ولم تنب عن شيء من عمل البدن غيرها علم أنها ليست بفريضة وأنها سنة ولو كانت فريضة ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع إليها. فالقول بأن الجلسة الوسطى ليست من فرائض الصلاة أولى بالصواب والله أعلم فلو كانت الجلسة الوسطى فرضا للزم الساعي عنها الانصراف إليها والإتيان بها ولفسدت صلاته بترك الرجوع إليها والنبي صلى الله عليه وسلم قد سبح به لها فما انصرف إليها وحسبك بهذا حجة لمن يعاند والله نسأله العصمة والتوفيق.اه ومن تمام الفائدة، رأيت إضافة حديث في نفس الحالة رجحه بعض العلماء على حديث ابن بحينة [والأمر ليس كذلك كما سوف تلاحظ] وهو حديث المغيرة بن شعبة: رواه أحمد والترمذي واللفظ له قال حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَنَهَضَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحَ بِهِ الْقَوْمُ وَسَبَّحَ بِهِمْ فَلَمَّا صَلَّى بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ بِهِمْ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ. وقد قال بعض العلماء بأن حديث ابن بحينة يعارضه حديث المغيرة بن شعبة هذا، ولكون المغيرة أشهر صحبة فحديثه أولى بالاتباع!!! حتى إن بعض مقلدي أبي حنيفة قالوا: لعل ابن بحينة لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سلم. وهذا منهم تعلل بدعوى الكذب وإسقاط السنن بالظن الكاذب ولا يحل أن يقال مثل هذا فيما رواه الثقة فكيف بمن صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.[رواه البخاري]. ومن الباطل أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ولا يسلم المؤتمون بسلامه. ومن الباطل أيضا أن يسلموا كما سلم عليه السلام ولا يسمع ابن بحينة شيئا من ذلك. ثم إن حديث ابن بحينة أصح من حديث المغيرة بن شعبة، والقول بهذا لا نفضل به هذا الصحابي عن ذاك بل إنه جرح أو تعديل في السند ذاته، ذلك أن رجال حديث ابن بحينة رجال الصحيح وأما رجال حديث ابن شعبة فلا، ولكم تعليق الإمام الترمذي على حديث ابن شعبة حيث قال بعد سرده: "...وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ قَالَ أَحْمَدُ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ صَدُوقٌ وَلَا أَرْوِي عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي صَحِيحَ حَدِيثِهِ مِنْ سَقِيمِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِثْلَ هَذَا فَلَا أَرْوِي عَنْهُ شَيْئًا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ قَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ تَرَكَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمَنْ رَأَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَحَدِيثُهُ أَصَحُّ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ". هذا كلام الترمذي، انتهى. إذن فابن أبي ليلى ثقة غير حافظ، وعليه فحديثه لا يعارض حديث الثقة الحافظ ولو تفرد به، وأما جابر هذا فلكم من تنوير الحوالك نبذة عنه: "جابر الجعفي هذا أحد علماء الشيعة يؤمن برجعة علي بن أبي طالب قال الثوري كان جابر ورعا في الحديث. وقال شعبة صدوق. وإذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس. وقال وكيع إن جابرا ثقة, هذه أقوال المعدلين فيه. وأما أقوال الجارحين فقال أيوب كذاب , وقال إسماعيل بن أبي خالد إتهم بالكذب وتركه يحيى القطان وقال أبو حنيفة النعمان الكوفي ما رأيت أكذب من جابر الجعفي . وقال ليث بن أبي سليم كذاب , وقال النسائي وغيره متروك وتركه سفيان بن عيينة. وقال ابن عدي عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة. وليس لجابر الجعفي عند النسائي وأبي داود سوى حديث واحد في سجود السهو. وقال ابن حبان كان يقول إن عليا يرجع إلى الدنيا وقال زائدة: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والحاصل أن جابرا ضعيف رافضي لا يحتج به , كـذا في غاية المقصود . قلت: وقال الحافظ في التلخيص: وهو ضعيف جدا انتهى. وقال في التقريب ضعيف رافضي".
الحديث الرابع
حديث ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو عن الحالة الرابعة حيث زاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدد الركعات فصلى خمس ركعات عوض أربع: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ. [رواه البخاري ومسلم]. وللإمام مسلم رواية من طريق أخرى هذا لفظها: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ وَأَبُو بَكْرِ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ قَالَ عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ(يَعْنِي ابْنُ مَسْعُودٍ): صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَات أخرها أسندها مسلم: "فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ". "فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ". "فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ". فهذا الحديث يشير إلى الزيادة في الصلاة، ومثل هذا يجبر بالسجود بعد السلام، فكل من وقع في مثل هذا السهو، يسجد سجدتين كسجود الصلاة بعد التشهد الأخير والسلام منه ثم يسلم بعدهما مباشرة دون تشهد.
ومن فوائد الحديث:
1) أن الكلام في الصلاة إذا كان فيما يصلحها وفيما هو منها لا يفسدها، فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين وسيأتي البحث في هذه المسألة مستقلا إن شاء الله تعالى.
2) أن يسلم إذا سجد للسهو بعد السلام.
3) أن السلام في الزيادة يكون بعد السلام ودون تشهد.
4) أن البيان لا يؤخر وقت الحاجة، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به).
5) إذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فإذا نسيت فذكروني".
6) أن النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع, وهو مذهب جمهور العلماء, وهو ظاهر القرآن والحديث, اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه, بل يعلمه الله تعالى به، وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون " فقد اختلف الرواة في الموضع الذي قالها فيه, ففي رواية منصور أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو, وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل, ورواية منصور أرجح وهي التي ذكرتها عن مسلم مسندة. والله أعلم
7) أن من زاد في صلاته ركعة ناسيا لم تبطل صلاته، وفي هذا دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف.
قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إذا زاد ركعة ساهيا بطلت صلاته ولزمه إعادتها. وقال أيضا: إن كان تشهد في الرابعة ثم زاد خامسة أضاف إليها سادسة تشفعها, وكانت نفلا بناء على أصله في أن السلام ليس بواجب ويخرج من الصلاة بكل ما ينافيها, وأن الركعة المفردة لا تكون في صلاة، قال: وإن لم يكن تشهد بطلت صلاته; لأن الجلوس بقدر التشهد واجب ولم يأت به حتى أتى بالخامسة. ولكن هذا الحديث يرد كل ما قاله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع من الخامسة, ولم يشفعها, وإنما تذكر بعد السلام. ففيه رد عليه وحجة للجمهور.
ومذهب الشافعي ومن وافقه أن الزيادة على وجه السهو لا تبطل الصلاة, سواء قلت أو كثرت إذا كانت من جنس الصلاة، وسواء زاد ركوعا أو سجودا أو ركعة أو ركعات كثيرة ساهيا فصلاته صحيحة في كل ذلك, ويسجد للسهو استحبابا لا إيجابا. وأما مالك فمن أصحابه من قال: لا تبطل مطلقا وهو مروي عنه رحمه الله تعالى وبهذا يكون رأيه كرأي الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
ومنهم من قال: إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته, بل هي صحيحة ويسجد للسهو, وإن زاد النصف فأكثر فمن أصحابه من أبطلها, وهو قول مطرف وابن القاسم, ومنهم من قال: إن زاد ركعتين بطلت وإن زاد ركعة فلا, وهو قول عبد الملك وغيره.
واعلم أخي المسلم أن الرجل متى قام إلى ركعة زائدة لزمه الرجوع متى ذكر ذلك، فيجلس ويتشهد ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو ثم يسلم. فإن علم بعد السلام فقد مضت صلاته صحيحة, ويسجد للسهو إن ذكر بعد السلام بقريب. وإن طال فمن العلماء من قال أنه لا يسجد ومنهم من قال بسجوده.
ذكرت في المقدمة قصة إمام الحي الذي أضاف خامسة، ولتمام الفائدة أطرح هذا السؤال: ما حكم صلاة إمام سها فصلى خمسا فتبعه قوم ممن خلفه يقتدون به وقد عرفوا سهوه، وقوم سهوا بسهوه، وقوم قعدوا فلم يتبعوه؟ إن القوم الذين اتبعوه ممن خلفه إقتداءً به وقد عرفوا سهوه يعيدون صلاتهم لأنهم أضافوا إلى الصلاة ما ليس منها عمداً. فالحديث وإن لم يذكر هل انتظر الصحابةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتبعوه في الخامسة فالظاهر أنهم اتبعوه لتجويزهم الزيادة في الصلاة لأنه كان زمان توقع النسخ. وأما بعد الزمن النبوي فليس للمأموم أن يتبع إمامه في الخامسة مع علمه بسهوه لأن الأحكام استقرت فلو تبعه بطلت صلاته لعدم العذر بخلاف من سها كسهوه. وقد تمت صلاة الإمام وصلاة من اتبعه ساهيا بسهوه وصلاة من قعد ولم يتبعه، ويسجد الإمام لسهوه ومن سها بسهوه سجدتين بعد السلام ويسجد معه من لم يتبعه على سهوه ولا يخالف الإمام قال ابن القاسم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" فعلى من خلف الإمام ممن لم يتبعه وقعد أن يسجد مع الإمام في سهوه وإن لم يَسْهُ. وقد جاء في الموطأ: "قَالَ مَالِك فِيمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَقَامَ بَعْدَ إِتْمَامِهِ الْأَرْبَعَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهِ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَتَمَّ إِنَّهُ يَرْجِعُ فَيَجْلِسُ وَلَا يَسْجُدُ وَلَوْ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ لَمْ أَرَ أَنْ يَسْجُدَ الْأُخْرَى ثُمَّ إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ". وقد ذكر الحديث "التحري" وهو موضوع سأخصص له فصلا مستقلا بإذن الله تعالى.
الحديث الخامس:
حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو في السجود على الشك: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ. [رواه الإمام مالك والشيخ مسلم في صحيحه واللفظ له]. قوله صلى الله عليه وسلم: (كانتا ترغيما للشيطان) أي إغاظة له وإذلالا, مأخوذ من الرغام وهو التراب, ومنه أرغم الله أنفه, والمعنى أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصها فجعل الله تعالى للمصلي طريقا إلى جبر صلاته وتدارك ما لبسه عليه وإرغام الشيطان ورده خاسئا مبعدا عن مراده, وكملت صلاة ابن آدم, وامتثل أمر الله تعالى الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود.
وفي هذا الحديث من الفقه:
1) أن اليقين لا يزيله الشك، وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه، وذلك أن الأصل في الظهر أنها فرض بيقين أربع ركعات فإذا أحرم بها ولزمه إتمامها وشك في ذلك فالواجب الذي قد ثبت عليه بيقين لا يخرجه منه إلا يقين.. وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة، واحتجوا لذلك بأعمال الشك في بعض نوازلهم وهذا جهل بين وليس كما ظنوا بل اليقين بأنها أربع فرض عليه إقامتها أوجب عليه إتمامها وهذا واضح والكلام لوضوحه يكاد يستغني عنه.
2) فيه أيضا دليل على أن الزيادة في الصلاة لا يفسدها ما كانت سهوا أو في إصلاح الصلاة.
3) وفيه أيضا أن الساهي في صلاته إذا فعل ما يجب عليه فعله سجد لسهوه.
الكتاب لم يتم بعد، حيث لازالت هناك فصول سيتم التطرق إليها لاحقاً إن شاء الله تعالى مثل:
السجود القبلي والسجود البعدي:
الكلام في الصلاة:
البناء والتحري:
مسائل مختلفة يحتاج المصلي إليها:
التماس: لا تبْخَلوا عليَّ بصَالِح دُعائِكم مأجُورين إنْ شاء اللهُ تعالى.